فصل: مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين



.بَيَانُ الْخَطَأِ فِي تَرْكِ الطَّاعَاتِ خَوْفًا مِنَ الرِّيَاءِ:

مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتْرُكُ الْعَمَلَ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مُرَائِيًا بِهِ، وَذَلِكَ غَلَطٌ وَمُوَافَقَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَجَرٌّ إِلَى الْبَطَالَةِ وَتَرْكٌ لِلْخَيْرِ، فَمَا دُمْتَ تَجِدُ بَاعِثًا دِينِيًّا عَلَى الْعَمَلِ فَلَا تَتْرُكِ الْعَمَلَ وَجَاهِدْ خَاطِرَ الرِّيَاءِ وَأَلْزِمْ قَلْبَكَ الْحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ إِذَا دَعَتْكَ نَفْسُكَ إِلَى أَنْ تَسْتَبْدِلَ بِحَمْدِهِ حَمْدَ الْمَخْلُوقِينَ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَى قَلْبِكَ، بَلْ إِنْ قَدَرْتَ عَلَى أَنْ تَزِيدَ فِي الْعَمَلِ حَيَاءً مِنْ رَبِّكَ وَعُقُوبَةً لِنَفْسِكَ فَافْعَلْ، فَإِنْ قَالَ لَكَ الشَّيْطَانُ: أَنْتَ مُرَاءٍ فَاعْلَمْ كَذِبَهُ وَخِدْعَهُ بِمَا تَصَادَفَ فِي قَلْبِكَ مِنْ كَرَاهِيَةِ الرِّيَاءِ وَإِبَائِهِ وَخَوْفِكَ مِنْهُ وَحَيَائِكَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ بَاعِثٌ دِينِيٌّ، بَلْ تَجَرَّدَ بَاعِثُ الرِّيَاءِ فَاتْرُكِ الْعَمَلَ عِنْدَ ذَلِكَ.

.بَيَانُ مَا عَلَى الْمُرِيدِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَهُ وَفِيهِ:

اعْلَمْ أَنَّ أَوْلَى مَا يُلْزِمُ الْمُرِيدُ قَلْبَهُ فِي سَائِرِ أَوْقَاتِهِ الْقَنَاعَةُ بِعِلْمِ اللَّهِ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ، وَلَا يَقْنَعُ بِعِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يَرْجُو إِلَّا اللَّهَ؛ فَأَمَّا مَنْ خَافَ غَيْرَهُ وَارْتَجَاهُ اشْتَهَى اطِّلَاعَهُ عَلَى مَحَاسِنِ أَحْوَالِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ فَلْيُلْزِمْ قَلْبَهُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ وَالْإِيمَانِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَطَرِ التَّعَرُّضِ لِلْمَقْتِ وَإِحْبَاطِ الْعَمَلِ، وَلْيُرَاقِبْ نَفْسَهُ عِنْدَ الطَّاعَاتِ الْعَظِيمَةِ الشَّاقَّةِ، فَإِنَّ النَّفْسَ تَكَادُ تَغْلِي حِرْصًا عَلَى الْإِفْشَاءِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ قَدَمُهُ وَيَتَذَكَّرَ فِي مُقَابَلَةِ عِظَمِ عَمَلِهِ مُلْكَ الْآخِرَةِ وَنَعِيمَ الْجَنَّةِ أَبَدَ الْآبَادِ، وَعِظَمِ غَضَبِ اللَّهِ عَلَى مَنْ طَلَبَ بِطَاعَتِهِ ثَوَابًا مِنْ عِبَادِهِ، ثُمَّ يُلْزِمَ قَلْبَهُ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَرَاغِ حَتَّى لَا يُظْهِرَهُ، وَلَا يَتَحَدَّثَ بِهِ، وَإِذَا فَعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَجِلًا مِنْ عَمَلِهِ خَائِفًا أَنَّهُ رُبَّمَا دَاخَلَهُ مِنَ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ مَا لَمْ يَقِفْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ شَاكًّا فِي قَبُولِهِ وَرَدِّهِ، مُجَوِّزًا أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَحْصَى عَلَيْهِ مِنْ نِيَّتِهِ الْخَفِيَّةِ مَا مَقَتَهُ بِهَا وَرَدَّ عَمَلَهُ بِسَبَبِهَا، وَيَكُونُ هَذَا الشَّكُّ وَالْخَوْفُ فِي دَوَامِ عَمَلِهِ وَبَعْدَهُ، وَأَمَّا فِي الِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ مُتَيَقِّنًا أَنَّهُ مُخْلِصٌ مَا يُرِيدُ بِعَمَلِهِ إِلَّا اللَّهَ حَتَّى يَصِحَّ عَمَلُهُ، وَخَوْفُهُ لِذَلِكَ الشَّكِّ جَدِيرٌ بِأَنْ يُكَفِّرَ خَاطِرَ الرِّيَاءِ إِنْ كَانَ قَدْ سَبَقَ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْهُ.
وَالَّذِي يَتَقَرَّبُ إِلَى اللَّهِ بِالسَّعْيِ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ وَإِفَادَةِ الْعِلْمِ يَنْبَغِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ رَجَاءَ الثَّوَابِ عَلَى دُخُولِ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ مَنْ قَضَى حَاجَتَهُ فَقَطْ، وَرَجَاءَ الثَّوَابِ عَلَى عَمَلِ الْمُتَعَلِّمِ بِعِلْمِهِ فَقَطْ دُونَ شُكْرٍ وَمُكَافَأَةٍ وَحَمْدٍ وَثَنَاءٍ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ وَالْمُنْعَمِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْبِطُ الْأَجْرَ، فَمَهْمَا تَوَقَّعَ مِنَ الْمُتَعَلِّمِ مُسَاعَدَةً فِي شُغْلٍ وَخِدْمَةٍ أَوْ مُرَافَقَةٍ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ لِيَسْتَكْبِرَ بِاسْتِتْبَاعِهِ أَوْ تَرَدُّدًا مِنْهُ فِي حَاجَةٍ فَقَدْ أَخَذَ أَجْرَهُ فَلَا ثَوَابَ لَهُ غَيْرُهُ؛ نَعَمْ إِنْ لَمْ يَتَوَقَّعْ هُوَ وَلَمْ يَقْصِدْ إِلَّا الثَّوَابَ عَلَى عَمَلِهِ بِعِلْمِهِ لِيَكُونَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ وَلَكِنْ خَدَمَهُ التِّلْمِيذُ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَ خِدْمَتَهُ فَنَرْجُو أَنْ لَا يُحْبِطَ ذَلِكَ أَجْرَهُ إِذَا كَانَ لَا يُرِيدُهُ، وَلَا يَسْتَبْعِدُهُ مِنْهُ لَوْ قَطَعَهُ.
وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَعَلِّمِ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ حَمْدَ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمَ لِلَّهِ وَيَعْبُدَ لِلَّهِ وَيَخْدِمَ الْمُعَلِّمَ لِلَّهِ، لَا لِيَكُونَ لَهُ فِي قَلْبِهِ مَنْزِلَةٌ، وَلَا فِي قَلْبِ الْخَلْقِ، فَإِنَّ الْعِبَادَ أُمِرُوا أَلَّا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ، وَلَا يُرِيدُوا بِطَاعَتِهِمْ غَيْرَهُ.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلُ عَنِ النَّاسِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُلْزِمَ قَلْبَهُ ذِكْرَ اللَّهِ وَالْقَنَاعَةَ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُخْطِرَ بِقَلْبِهِ مَعْرِفَةَ النَّاسِ زُهْدَهُ وَاسْتِعْظَامَهُمْ مَحَلَّهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغْرِسُ الرِّيَاءَ فِي صَدْرِهِ حَتَّى تَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ الْعِبَادَاتُ فِي خَلْوَتِهِ بِهِ، وَإِنَّمَا سُكُونُهُ لِمَعْرِفَةِ النَّاسِ بِاعْتِزَالِهِ وَاسْتِعْظَامِهِمْ لِمَحَلِّهِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ الْمُخَفِّفُ لِلْعَمَلِ عَلَيْهِ؛ فَاسْتِشْعَارُ النَّفْسِ عِزَّ الْعَظَمَةِ فِي الْقُلُوبِ يَكُونُ بَاعِثًا فِي الْخَلْوَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ الْحَذَرَ مِنْهُ، وَعَلَامَةُ سَلَامَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْخَلْقُ عِنْدَهُ وَالْبَهَائِمُ بِمَثَابَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ تَغَيَّرُوا عَنِ اعْتِقَادِهِمْ بِهِ لَمْ يَجْزَعْ وَلَمْ يَضِقْ بِهِ ذَرْعًا إِلَّا كَرَاهَةً ضَعِيفَةً إِنْ وَجَدَهَا فِي قَلْبِهِ فَيَرُدُّهَا فِي الْحَالِ بِعَقْلِهِ وَإِيمَانِهِ.
وَلَوْ كَانَ فِي عِبَادَةٍ وَاطَّلَعَ النَّاسُ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَزِدْهُ ذَلِكَ خُشُوعًا وَلَمْ يَدْخُلْهُ سُرُورٌ بِسَبَبِ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ.
وَمِنْ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِيهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ صَاحِبَانِ أَحَدُهُمَا غَنِيٌّ وَالْآخَرُ فَقِيرٌ فَلَا يَجِدُ عَنْ إِقْبَالِ الْغَنِيِّ زِيَادَةَ هَزَّةٍ فِي نَفْسِهِ لِإِكْرَامِهِ إِلَّا إِذَا كَانَ فِي الْغَنِيِّ زِيَادَةُ عِلْمٍ أَوْ زِيَادَةُ وَرَعٍ فَيَكُونُ مُكْرِمًا لَهُ بِذَلِكَ الْوَصْفِ لَا بِالْغِنَى، فَمَنْ كَانَ اسْتِرْوَاحُهُ إِلَى مُشَاهَدَةِ الْأَغْنِيَاءِ أَكْثَرَ فَهُوَ مُرَاءٍ أَوْ طَمَّاعٍ.
وَمَكَايِدُ النَّفْسِ وَخَفَايَاهَا فِي هَذَا الْفَنِّ لَا تَنْحَصِرُ، وَلَا يُنْجِيكَ مِنْهَا إِلَّا أَنْ تُخْرِجَ مَا سِوَى اللَّهِ مِنْ قَلْبِكَ، وَتَتَجَرَّدَ بِالشَّفَقَةِ عَلَى نَفْسِكَ بَقِيَّةَ عُمُرِكَ، وَلَا تَرْضَى لَهَا بِالنَّارِ بِسَبَبِ شَهَوَاتٍ مُنَغِّصَةٍ فِي أَيَّامٍ مُتَقَارِبَةٍ.

.كِتَابُ ذَمِّ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ:

.مَا وَرَدَ فِي ذَمِّ الْكِبْرِ:

قَالَ تَعَالَى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الْأَعْرَافِ: 146] وَقَالَ تَعَالَى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غَافِرٍ: 35] وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إِبْرَاهِيمَ: 15] وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النَّحْلِ: 23] وَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غَافِرٍ: 60].
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ».
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا أَلْقَيْتُهُ فِي جَهَنَّمَ، وَلَا أُبَالِي».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ، وَلَا جَبَّارٌ».
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى رَجُلٍ يَجُرُّ إِزَارَهُ بَطَرًا».
وَجَاءَ فِي فَضْلِ التَّوَاضُعِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ».
وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ فِي غَيْرِ مَسْكَنَةٍ، وَأَنْفَقَ مَالًا جَمَعَهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَرَحِمَ أَهْلَ الذُّلِّ وَالْمَسْكَنَةِ، وَخَالَطَ أَهْلَ الْفِقْهِ وَالْحِكْمَةِ».
وَعَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ، وَمَنْ تَكَبَّرَ وَضَعَهُ اللَّهُ، وَمَنِ اقْتَصَدَ أَغْنَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ بَذَّرَ أَفْقَرَهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَكْثَرَ ذِكْرَ اللَّهِ أَحَبَّهُ اللَّهُ».
وَقَالَ الفضيل وَقَدْ سُئِلَ عَنِ التَّوَاضُعِ: أَنْ تَخْضَعَ لِلْحَقِّ وَتَنْقَادَ لَهُ، وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ صَبِيٍّ قَبِلْتَهُ، وَلَوْ سَمِعْتَهُ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ قَبِلْتَهُ.

.بَيَانُ حَقِيقَةِ الْكِبْرِ وَآفَتِهِ:

اعْلَمْ أَنَّ الْكِبْرَ يَنْقَسِمُ إِلَى بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، فَالْبَاطِنُ هُوَ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ، وَالظَّاهِرُ هُوَ أَعْمَالٌ تَصْدُرُ مِنَ الْجَوَارِحِ، وَتِلْكَ الْأَعْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى، وَآفَتُهُ عَظِيمَةٌ وَغَائِلَتُهُ هَائِلَةٌ، وَكَيْفَ لَا تَعْظُمُ آفَتُهُ وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ» وَإِنَّمَا صَارَ حِجَابًا دُونَ الْجَنَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهَا، وَتِلْكَ الْأَخْلَاقُ هِيَ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَالْكِبْرُ وَعِزَّةُ النَّفْسِ يُغْلِقُ تِلْكَ الْأَبْوَابَ كُلَّهَا؛ لِأَنَّ الْمُتَكَبِّرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحِبَّ لِلْمُؤْمِنِينَ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى التَّوَاضُعِ، وَهُوَ رَأْسُ أَخْلَاقِ الْمُتَّقِينَ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الْحِقْدِ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَدُومَ عَلَى الصِّدْقِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الْغَضَبِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَرْكِ الْحَسَدِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى النُّصْحِ اللَّطِيفِ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى قَبُولِ النُّصْحِ، وَلَا يَسْلَمُ مِنَ الْإِزْرَاءِ بِالنَّاسِ وَمِنِ اغْتِيَابِهِمْ.
وَبِالْجُمْلَةِ فَمَا مِنْ خُلُقٍ ذَمِيمٍ إِلَّا وَصَاحِبُ الْعِزِّ وَالْكِبْرِ مُضْطَرٌّ إِلَيْهِ لِيَحْفَظَ بِهِ عِزَّهُ، وَمَا مِنْ خُلُقٍ مَحْمُودٍ إِلَّا وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَفُوتَهُ عِزُّهُ، فَمِنْ هَذَا لَمْ يُدْخِلِ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْهُ.
وَشَرُّ أَنْوَاعِ الْكِبْرِ مَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِفَادَةِ الْعِلْمِ وَقَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَفِيهِ وَرَدَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا ذَمُّ الْكِبْرِ وَالْمُتَكَبِّرِينَ.
وَمَنْشَؤُهُ اسْتِحْقَارُ الْغَيْرِ وَازْدِرَاؤُهُ وَاسْتِصْغَارُهُ، وَلِذَلِكَ شَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِبْرَ بِهَاتَيْنِ الْآفَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ الْخَلْقِ» أَيِ ازْدِرَاؤُهُمْ وَاسْتِحْقَارُهُمْ وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ أَمْثَالُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ وَهَذِهِ الْآفَةُ الْأُولَى، وَبَطَرُ الْحَقِّ هُوَ رَدُّهُ وَهِيَ الْآفَةُ الثَّانِيَةُ.
فَكُلُّ مَنْ رَأَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ أَخِيهِ وَاحْتَقَرَ أَخَاهُ وَازْدَرَاهُ وَنَظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاسْتِصْغَارِ أَوْ رَدَّ الْحَقَّ، وَهُوَ يَعْرِفُهُ فَقَدْ تَكَبَّرَ وَنَازَعَ اللَّهَ فِي حَقِّهِ.
وَوَجْهُ الْآفَةِ الْأُولَى أَنَّ الْكِبْرَ وَالْعِزَّ وَالْعَظَمَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمَلِكِ الْقَادِرِ، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَمْلُوكُ الضَّعِيفُ الْعَاجِزُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ فَمِنْ أَيْنَ يَلِيقُ بِحَالِهِ الْكِبْرُ وَاسْتِعْظَامُ النَّفْسِ وَاسْتِحْقَارُ الْغَيْرِ؟ فَمَهْمَا تَكَبَّرَ الْعَبْدُ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ تَعَالَى فِي صِفَةٍ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِجَلَالِهِ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْغُلَامُ تَاجَ الْمَلِكِ فَيَضَعُهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَجْلِسُ عَلَى سَرِيرِهِ فَمَا أَعْظَمَ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْمَقْتِ، وَمَا أَعْظَمَ تَهَدُّفَهُ لِلْخِزْيِ وَالنَّكَالِ، وَمَا أَشَدَّ اسْتِجْرَاءَهُ عَلَى مَوْلَاهُ، وَمَا أَقْبَحَ مَا تَعَاطَاهُ.
فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللَّهِ وَلَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ عَلَيْهِمْ، فَمَنْ تَكَبَّرَ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَقَدْ نَازَعَ اللَّهَ فِي حَقِّهِ.
وَوَجْهُ الْآفَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ مَنْ سَمِعَ الْحَقَّ مِنْ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَاسْتَنْكَفَ عَنْ قَبُولِهِ وَتَشَمَّرَ لِجَحْدِهِ فَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلتَّرَفُّعِ وَالتَّعَاظُمِ وَاسْتِحْقَارِ غَيْرِهِ حَتَّى تَأَبَّى أَنْ يَنْقَادَ لَهُ، وَذَلِكَ مِنْ أَخْلَاقِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِذْ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فُصِّلَتْ: 26].
فَكُلُّ مَنْ يَتَّضِحُ لَهُ الْحَقُّ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ وَيَأْنَفُ مِنْ قَبُولِهِ، أَوْ يُنَاظِرُ لِلْغَلَبَةِ وَالْإِفْحَامِ لَا لِيَغْتَنِمَ الْحَقَّ إِذَا ظَفِرَ بِهِ فَقَدْ شَارَكَهُمْ فِي هَذَا الْخُلُقِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَحْمِلُهُ الْأَنَفَةُ عَلَى عَدَمِ قَبُولِ الْوَعْظِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} [الْبَقَرَةِ: 206].

.بَيَانُ مَا بِهِ التَّكَبُّرُ:

اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَتَكَبَّرُ إِلَّا مَنِ اسْتَعْظَمَ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَعْظِمُهَا إِلَّا وَهُوَ يَعْتَقِدُ لَهَا صِفَةً مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَجِمَاعُ ذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى كَمَالٍ دِينِيٍّ أَوْ دُنْيَوِيٍّ، فَالدِّينِيُّ هُوَ الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ، وَالدُّنْيَوِيُّ هُوَ النَّسَبُ وَالْجَمَالُ وَالْقُوَّةُ وَالْمَالُ وَكَثْرَةُ الْأَنْصَارِ، فَهَذِهِ سَبْعَةُ أَسْبَابٍ:

.الْأَوَّلُ: الْعِلْمُ:

وَمَا أَسْرَعَ الْكِبْرَ إِلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَا يَلْبَثُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ فِي نَفْسِهِ كَمَالَ الْعِلْمِ فَيَسْتَعْظِمَ نَفْسَهُ وَيَسْتَحْقِرَ النَّاسَ وَيَسْتَجْهِلَهُمْ وَيَسْتَخْدِمَ مَنْ خَالَطَهُ مِنْهُمْ.
وَقَدْ يَرَى نَفْسَهُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَفْضَلَ مِنْهُمْ فَيَخَافُ عَلَيْهِمْ أَكْثَرَ مِمَّا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، وَيَرْجُو لِنَفْسِهِ أَكْثَرَ مِمَّا يَرْجُو لَهُمْ، وَسَبَبُ كِبْرِهِ بِالْعِلْمِ أَمْرَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِمَا يُسَمَّى عِلْمًا وَلَيْسَ عِلْمًا فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الْحَقِيقِيَّ مَا يَعْرِفُ بِهِ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَنَفْسَهُ وَخَطَرَ أَمْرِهِ فِي لِقَاءِ اللَّهِ وَالْحِجَابِ مِنْهُ، وَهَذَا يُورِثُ الْخَشْيَةَ وَالتَّوَاضُعَ دُونَ الْكِبْرِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فَاطِرٍ: 28].
ثَانِيهِمَا: أَنْ يَخُوضَ فِي الْعِلْمِ، وَهُوَ خَبِيثُ الدُّخْلَةِ رَدِيءُ النَّفْسِ سَيِّئُ الْأَخْلَاقِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَشْتَغِلْ أَوَّلًا بِتَهْذِيبِ نَفْسِهِ وَتَزْكِيَةِ قَلْبِهِ بِأَنْوَاعِ الْمُجَاهَدَاتِ فَبَقِيَ خَبِيثَ الْجَوْهَرِ، فَإِذَا خَاضَ فِي الْعِلْمِ صَادَفَ الْعِلْمُ مِنْ قَلْبِهِ مَنْزِلًا خَبِيثًا فَلَمْ يَطِبْ ثَمَرُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ فِي الْخَيْرِ أَثَرُهُ، وَقَدْ ضَرَبَ وهب لِهَذَا مَثَلًا فَقَالَ: الْعِلْمُ كَالْغَيْثِ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ حُلْوًا صَافِيًا فَتَشْرَبُهُ الْأَشْجَارُ بِعُرُوقِهَا فَتُحَوِّلُهُ عَلَى قَدْرِ طَعُومِهَا فَيَزْدَادُ الْمُرُّ مَرَارَةً وَالْحُلْوُ حَلَاوَةً، فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ يَحْفَظُهُ الرِّجَالُ فَتُحَوِّلُهُ عَلَى قَدْرِ هِمَمِهَا وَأَهْوَائِهَا، فَيَزِيدُ الْمُتَكَبِّرَ كِبْرًا وَالْمُتَوَاضِعَ تَوَاضُعًا، وَهَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَتْ هِمَّتُهُ الْكِبْرَ هُوَ جَاهِلٌ فَإِذَا حَفِظَ الْعِلْمَ وَجَدَ مَا يَتَكَبَّرُ بِهِ فَازْدَادَ كِبْرًا، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ خَائِفًا مَعَ عِلْمِهِ فَازْدَادَ عِلْمًا عَلِمَ أَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ عَلَيْهِ فَيَزْدَادُ خَوْفًا.

.الثَّانِي الْعَمَلُ وَالْعِبَادَةُ:

وَلَيْسَ يَخْلُو عَنْ رَذِيلَةِ الْكِبْرِ وَاسْتِمَالَةِ قُلُوبِ النَّاسِ الْعُبَّادِ فَيَتَرَشَّحُ مِنْهُمُ الْكِبْرُ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَهُوَ أَنَّهُمْ يَتَوَقَّعُونَ ذِكْرَهُمْ بِالْوَرَعِ وَالتَّقْوَى وَتَقْدِيمَهُمْ عَلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَكَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ عِبَادَتَهُمْ مِنَّةً عَلَى الْخَلْقِ، وَأَمَّا فِي الدِّينِ فَهُوَ أَنْ يَرَى النَّاسَ هَالِكِينَ وَيَرَى نَفْسَهُ نَاجِيًا، وَهُوَ الْهَالِكُ تَحْقِيقًا مَهْمَا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَمِعْتُمُ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ» وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُزْدَرٍ بِخَلْقِ اللَّهِ مُغْتَرٌّ آمِنٌ مِنْ مَكْرِهِ غَيْرُ خَائِفٍ مِنْ سَطْوَتِهِ، وَكَيْفَ لَا يَخَافُ وَيَكْفِيهِ شَرًّا احْتِقَارُهُ لِغَيْرِهِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَفَى بِالْمَرْءِ شَرًّا أَنْ يُحَقِّرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ».
وَكَثِيرٌ مِنَ الْعِبَادِ إِذَا اسْتَخَفَّ بِهِ مُسْتَخِفٌّ أَوْ آذَاهُ مُؤْذٍ اسْتَبْعَدَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُ، وَلَا يَشُكُّ فِي أَنَّهُ صَارَ مَمْقُوتًا عِنْدَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِعِظَمِ قَدْرِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ، وَهُوَ جَهْلٌ وَجَمْعٌ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالِاغْتِرَارِ بِاللَّهِ.
وَقَدْ يَنْتَهِي الْحُمْقُ وَالْغَبَاوَةُ بِبَعْضِهِمْ إِلَى أَنْ يَتَحَدَّى وَيَقُولَ: سَتَرَوْنَ مَا يَجْرِي عَلَيْهِ، وَإِذَا أُصِيبَ بِنَكْبَةٍ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ كَرَامَاتِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ مَا أَرَادَ إِلَّا الِانْتِقَامَ لَهُ مَعَ أَنَّهُ يَرَى طَبَقَاتٍ مِنَ الْكُفَّارِ يَسُبُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَعُرِفَ جَمَاعَةٌ آذَوُا الْأَنْبِيَاءَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قَتَلَهُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ ضَرَبَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ أَمْهَلَ أَكْثَرَهُمْ، وَلَا يُعَاقِبُهُمْ فِي الدُّنْيَا، بَلْ رُبَّمَا أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يُصِبْهُ مَكْرُوهٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَا فِي الْآخِرَةِ: أَفَيَظُنُّ هَذَا الْجَاهِلُ الْمَغْرُورُ أَنَّهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، وَأَنَّهُ قَدِ انْتَقَمَ لَهُ بِمَا لَمْ يَنْتَقِمْ لِأَنْبِيَائِهِ بِهِ، وَلَعَلَّهُ فِي مَقْتِ اللَّهِ بِإِعْجَابِهِ وَكِبْرِهِ، وَهُوَ غَافِلٌ عَنْ هَلَاكِ نَفْسِهِ، فَهَذِهِ عَقِيدَةُ الْمُغْتَرِّينَ، وَأَمَّا الْأَكْيَاسُ مِنَ الْعِبَادِ فَيَقُولُونَ مَا كَانَ يَقُولُهُ السَّلَفُ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ عَرَفَاتٍ: كُنْتُ أَرْجُو الرَّحْمَةَ لِجَمِيعِهِمْ لَوْلَا كَوْنِي فِيهِمْ فَانْظُرْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ: هَذَا يَتَّقِي اللَّهَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَهُوَ وَجِلٌ عَلَى نَفْسِهِ مُزْدَرٍ لِعَمَلِهِ، وَذَاكَ يُضْمِرُ مِنَ الرِّيَاءِ وَالْكِبْرِ وَالْغِلِّ مَا هُوَ ضُحَكَةٌ لِلشَّيْطَانِ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَمْتَنُّ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِهِ.
وَمِنْ آثَارِ الْكِبْرِ فِي الْعَابِدِ أَنْ يَعْبَسَ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ مُتَنَزِّهٌ عَنِ النَّاسِ مُسْتَقْذِرٌ لَهُمْ، وَلَيْسَ يَعْلَمُ الْمِسْكِينُ أَنَّ الْوَرَعَ لَيْسَ فِي الْجَبْهَةِ حَتَّى تُقْطَبَ، وَلَا فِي الرَّقَبَةِ حَتَّى تُطَأْطَأَ، وَلَا فِي الذَّيْلِ حَتَّى يُضَمَّ، إِنَّمَا الْوَرَعُ فِي الْقُلُوبِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «التَّقْوَى هَاهُنَا» وَأَشَارَ إِلَى صَدْرِهِ، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمَ الْخَلْقِ وَأَتْقَاهُمْ، وَكَانَ أَوْسَعَهُمْ خُلُقًا وَأَكْثَرَهُمْ بِشْرًا وَتَبَسُّمًا وَانْبِسَاطًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 215].